أحداث عجيبة في طريق دعوته .. وعذاب لا يطاق .. وقصة مليئة بالآلام .. يستبعد القارئ أن تحدث في بلاد المسلمين وفي بلاد اليمن خصوصا، رواها العالم الرباني فضيلة الشيخ/ عوض محمد بانجار بنفسه وننشرها هنا لتعرف الأجيال ثبات هؤلاء الرجال الجبال ومقدار ما قدموه لدينهم وما واجهوه من العذاب والتنكيل لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله ، ولن نطيل على القارئ ، لنتركه مع العالم المجاهد الرباني يحكي الرحلة الدعوية المليئة بالمكاره والابتلاءات، حيث قال :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً وصلاة وسلاماً على إمام المرسلين وسيد الخلق أجمعين كما ينبغي ويليق له من صلاة وسلام وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن اتبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد فهذه وريقات ضمنتها أيام خاصة من حياتي وهي أيام عشتها في سجون الحكم الشمولي ( الحزب الاشتراكي ) أيام حكمه لجنوب اليمن . فقد ولدت بحضرموت بغيل باوزير وهي تابعة للمكلا ( حضرموت الساحل ) بينما هي الآن مديرية مستقلة .
مولدي ونشأتي :
ولدت عام 1366هـ "1945" ولقد رافقتني النزعة الدينية منذ طفولتي حيث كنت أرافق أبي إلى المسجد وكان إماماً وحافظاً لكتاب الله رحمه الله رحمة واسعة .
ولقد أحببت الدعوة إلى الله منذ وقت مبكر من حياتي وسرى حبها في عروقي وشراييني .
والدعوة تعني أنك تؤمن أنت بالفكرة إيماناً جازماً ثم تنطلق بعزيمة وحرقة قاصداً أن يؤمن الناس بما آمنت ويفهموا ما فهمت ولا تهنأ بطعام وما تغمض لك عين حتى ترى شريعة الله هي الحاكمة ودين الله هو المسيطر .
ولقد تعلمت وأنا في طريق الدعوة إلى الله أموراً كثيرة وخاصة ما تعلمته وأنا أتنقل في مدرسة يوسف عليه السلام من سجن إلى آخر .
ونحن نعلم جميعاً أن للقصة والحدث في القرآن الكريم أهدافاً وعبراً من بين هذه الأهداف العبرة .( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ )يوسف11
ومنها التثبيت ( وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)( 120) إلى غيره من الأهداف والعبر .
بداية مشوار الابتلاء:
ولهذا فإني لن أسرد أحداث السجن فقط ولكني سأتخلص من تلك الأحداث العبر والدروس جرياً وراء طريقة القرآن الكريم من قصه للقصص وسرده للأحداث .
بدأ الإيذاء في غيل باوزير وتم نقلي إلى منطقة حجر للتدريس في عام 1975م وعند وصولي ألقيت كلمة بعد صلاة الجمعة وجاءت إلي في اليوم الثاني السبت رسالة تهديد ووعيد وبعد ذلك تم نقلي إلى منطقه أخرى في حجر ( الجول )• وهي منطقة موبوءة واستدعاني المشرف التعليمي في المنطقة وهدد بظلام لا نور فيه إذا استمريت في البلبلة كما يزعمون أضف إلى ذلك ملاحقات واستدعاءات كثيرة .
وعلمت فيما بعد من أحد المسؤولين في أمن الدولة أن الحزب كان يحصي الخطوات ويعد الأنفاس وكتبوا ملف كامل به مجموعة من التقارير .
أحداث السجون الثلاثة :
والآن أبدأ أولاً بسرد أحداث السجون الثلاثة التي وقعت علي منذ عام 1400هـ "79م" ففي حوالي عام 1396هـ بدأت الدعوة إلى الله ما بين غيل باوزير والمكلا في المساجد ودروس خاصة في بيتي والتف الشباب حولي وفي عام 1399هـ كنت أعقد حلقات في مسجد من مساجد المكلا عصراً إلى قرب آذان المغرب وفي مسجد آخر من بعد صلاة المغرب إلى قيام صلاة العشاء مع أنني أُدرس صباحاً في المدارس الحكومية فقد كان نشاطاً غريباً مباركاً وكانت السلطات الشيوعية غافلة عنا والأصل أن الله صرفهم عني وفي عام 1400هـ "1979م" تقريباً ذهبت إلى منطقة تسمى ( حوره ) بحضرموت الداخل في زيارة لأهل زوجتي التي كانت من حوره .
وفي حوره عقدنا حلقات في مسجد الجامع من بعد صلاة المغرب حتى قيام صلاة العشاء واحتشد الناس وجاءوا من القرى المجاورة ومن الضواحي وامتلأت ساحة المسجد الداخلي بالمسجلات وساحة المسجد الخارجية بالسيارات والسياكل النارية لتشوق الناس لسماع كلام الله وقد كُممت الأفواه وحورب الدين . وذلك مما أزعج السلطات الغاشمة التي تحارب كل ما يتصل بالدين من قريب أو من بعيد . وما إن مر أسبوع واحد حتى استدعيت إلى مركز الحزب بحوره .
وسألني مسئول المركز فيما إذا كان عندي ترخيص بالوعظ والتدريس فقلت له نعم لدي ترخيص من رب العالمين ومن رسوله عليه الصلاة والسلام . فالله يقول: ( وَذَكِّـرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (( بلغوا عني ولو آية بلغوا عني ولو حديث )) .
ثم قلت للمسئول ماذا تريدون فقال تحمل مسئوليتك .
ولكني لم أفهم ماذا يعني بتحمل مسئوليتك وفي حقيقة الأمر كنا موعودين بإلقاء درس بعد العصر في مسجد ( عرض آل بامخاشن ) فلما خرجت من المركز قلت لخال زوجتي ماذا ترى بعد كلامهم هذا فرد عليَّ / عاد رب فوق العرب فلهذا تشجعت وذهبت إلى العرض لإلقاء الدرس حسب الوعد ، فواصلت محاضراتي بعد صلاة المغرب في جامع ( حوره ) ، وكان هناك من الجمع ما يشجع على الاستمرار والبذل والجهد الكبير في سبيل إعلاء كلمة الله ويضرب بتهديدهم ووعيدهم عرض الحائط
الطريق إلى سجن القطن :
وفي نفس اليوم ألقيت محاضرة وبعدها سألني أحد المدفوعين سؤال وقال بلادنا تنتهج نهج اشتراكي فهل في الإسلام اشتراكية فأجبته أن الدين دين كامل شامل فيه كل المحاسن مبرأ من كل المساوئ وفيه العدل والحكمة والرحمة والمصلحة وما سوى ذلك فهي أهواء البشر الجهلة وسمي هذه الأهواء ما شئت .
فما إن أصبح الصباح وصليت الفجر مع المسلمين ثم عدت فنمت قليلاً فإذا بأهلي ينادونني بأن المليشيا تطلبك فخرجت فقابلني رجل مخيف في وجهه غبرة ترهقها قترة قلت سبحان الله ما أخبر الله عنه في القرآن عن حال الكفار يوم القيامة نراه في الدنيا واضحاً جلياً في وجوه هؤلاء المجرمين .
فقادني الرجل إلى المليشيا أي إلى مقر المليشيا وهناك أخبرت أن لديهم أمراً باعتقالي ونقلي إلى سجن ( القطن ) .
وكان من مجمل كلامهم أنني أخليت بالأمن وقمت بحشد هذا الجمع الكبير في المحاضرة مع أنهم لا يستطيعوا حشد مثل هذا الجمع إذا أرادوا فتذكرت في هذا الموقف الشخص الذي سألني أثناء المحاضرة عن الاشتراكية فعلمت حين ذلك أنه أحب بسؤالي أن يستدرجني إلى فخ الاشتراكي . عند ذلك جاءت زوجتي ومعها ولدي محمد• وعمره عشرة أشهر تحمله في يدها وهي تصيح في أفراد المليشيا فقلت لها ( يقضي الله ما هو كائن عودي إلى رحلك ) .
مالذي حدث في سجن القطن؟!
فأخذوني من حوره إلى سجن القطن فأتوا بي إلى مقر المليشيا بالقطن وجردوني من ثيابي وحزامي وساعتي ( ساعة اليد ) وحققوا معي وقالوا لي في التحقيق مثال من معك من أصحابك ما علاقتك بالسعودية من أين يأتيك الدعم .. إلخ . ثم قادوني إلى سجن القطن فقال مسئول السجن ضعوه في رقم (1) وامنعوا عنه الزيارات ومكثت فيه بقية يومي وفي آخر النهار جاء كبير رجال المليشيا الذي قادني من حوره إلى القطن وقال لي قم معنا إلى سيئون فإنهم سيلقنونك درساً لن تنساه وسيحسنون تأديبك بعد أن طعنت في الدولة وما تركت عيباً إلا وألصقته بالدولة فقادني ومعه حارس آخر أو حارسان وقادوني إلى سجن ( سيئون ) وهو جهاز أمن الدولة إدارة وسجناً .
أما سجن سيئون :
وقد كان سجناً موحشاً ضيقاً غريباً فقد كان عرض الزنزانة ذراع ونصف تقريباً وارتفاع جدرانه بعيداً جداً وعند السقف فتحة صغيرة جداً علماً أن الباب صغير جداً من الخشب القوي يحدث الظلمة والاختناق والوحشة وحدث ولا حرج .
وأجروا معي تحقيقاً وعذبوني حيث كان الحراس لا يأذنون لي بالخروج إلا مرة واحدة في اليوم الواحد وإذا خرجت استعجلوني قبل قضاء حاجتي وربما حملوني من مكان قضاء الحاجة حملاً قبل تمامها وأعادوني إلى زنزانتي بالإضافة إلى الاستفزاز والإيذاء ودخل علي رمضان فصمت مع أنهم كانوا جميعاً يفطرونه في إعلان وتحد .
وقد كنت في مدة سجني هذا أعيش شدة وألم شديدين وذلك لأنني أسجن لأول مرة ولقسوة الحراس واستفزازهم ولضيق الزنزانة وظلمتها وكانوا يسخرون مني ومن الدين الذي أدين به .
وبعد شهرين من الزمان أطلق سراحي .
فقد أخرجوني ليلاً صبحها يوم عيد الفطر وبقيت في ساحة السجن وأشعر بالفرح لظني أنه إفراج ولكن الحراس كانوا يهددوني ويتوعدوني بسجن بعده أسوأ .
تهديد ووعيد واعتداء على المصحف يقابله ثبات وإصرار:
وفي الصباح جاء المحقق في اليوم الثاني من يوم العيد وهددني إن أنا عدت لدعوتي سيكون السجن أطول والعذاب أشد ثم أخرجوني وذهبوا بي إلى أصهاري في حوره وعلمت حينها أنه إفراج على الحقيقة وبعدها سافرت إلى أهلي بالغيل .
ولكني لم أترك الدعوة إلى الله بعد خروجي فقد ملك حبها عليِّ أقطار نفسي فلم أصبر وتجمع الشباب حولي هذه المرة بالعشرات بل بالمئات فكان بيننا الحب في الله وكانت اللقاءات الإيمانية إلى جانب الدعوة العامة في المساجد والرحلات الدعوية والترفيهية وفي عام 1402هـ "1981م" وفي آخر شهر ذي الحجة وقد كان الشباب يتجمعون معي كل ليلة في زيارة لأحدهم في بيته ونعقد حلقة ولكن الحزب الحاكم لم يرض بهذا وغاظه ما يرى من تجمعنا ونحن نمشي ونحن نلتقي ولعبت برأسه الظنون .
وفي مساء يوم العشرين من ذي الحجة عام 1402هـ "1981م" كان جنود وزبانية الحزب الاشتراكي يطوقون المسجد ويطوقون بيتي .
فما إن قضيت صلاة العشاء وقصدت بيتي إلا وسمعت من ينادي علي فالتفت فشاهدت وجهاً مظلماً كالذي رأيته بحورة يقول لي ( عندنا أمر باعتقالك وتفتيش بيتك ) .
ودخلوا البيت فأقلقوا أمنه ولم يرحموا صراخ امرأة ولا بكاء طفل ولم يحترموا مصحفاً ولا كتباً إسلامية فقد وطئت أقدامهم المصاحف والكتب وفتشوا تفتيشاً دقيقاً وعملوا حراسة عليّ في بيتي حيث أني أردت دخول ( دورة المياه ) في بيتي فقال أحدهم دعنا نفتشه وبعد أن خرجت شاهدتهم يحركون قلماً خوفاً أن فيه قنبله أو شيء متفجر ودخلوا غرفة نومي التي هي عبارة عن غرفة نوم لي ولزوجتي وأطفالي وفيها مكتبتي فعاثوا فساداً فيها وكادوا يقتلون أحد أطفالي الذي كان نائماً هناك ، وأخذوا من مكتبتي كل شيء فلم يتركوا أخضر ولا يابس ( من كتب ومجلات وسجلات ورسائل حتى أوراق العلاج وشهادات المدارس ) .
ليالي سوداء على أصوات الأسلحة :
ثم اقتادوني إلى مليشيا غيل باوزير أولاً ومنها إلى جهاز أمن الدولة بالمكلا .
وبت في إحدى المخازن وأنا أسمع طول ليلتي أصوات الأسلحة فلا أدري أهم يتفقدونها ويصلحونها أم هم أرادوا إرعابي وإزعاجي .وبت بشر ليلة بلا عشاء وفي إزعاج مستمر ولكني طلبت الوضوء فصليت وبت ألهج بذكر ربي .
وفي الصباح جاء أحد رجالات الأمن وقال لي هيّا قم فقلت إلى أين؟ قال إلى جهنم فاقتادوني إلى سجن المنورة المركزي بالمكلا ومكثت فيه نصف شهر أجروا خلاله بعض التحقيقات .
وبعدها جاءني محقق عدني ومعه جنديان مسلحان وقال لي المحقق قم إلى عدن وهنا سيفقشوك يقصد سيقتلوك وتحركت بنا السيارة ولكنها اتجهت إلى ناحية حضرموت الداخل وطول الطريق كان المحقق العدني يهددنني بالقتل وقال لي نحن نستطيع أن نقتلك ولن يحاسبنا أحد ومر بنا على جبل فقال لي أترى هذا الجبل ـ فحزبنا ثابت راسخ مثل هذا الجبل فقلت سبحان الله لقد قال في كتابه:( أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ) .
ثلاثية مرعبة : رصاص أو سحل أو دفن !!
وبعد ذلك نقلوني إلى جهاز أمن الدولة بسيئون قائلين لهم بضاعتكم ردت إليكم أي كان عندكم فلم تحسنوا تأديبه فرددناه لكم فلا ترحموه هذه المرة .
فلبثت ستة أشهر ونصف تقريباً في سجن سيئون في زنزانة هي كالقبر في ضيقها وصغر بابها مع صلابته وشدة ظلمتها وبعد سقفها وفتحة صغيرة في نهاية السقف . وفي خلالها أوذيت كثيراً أثناء التحقيق بالعبث وبالتعليق فغل يدي بقيد مربوط بحبل الحبل مربوط بخشبة ويضعوا تحت رجلي بعض الطوب ثم يسحبونها فتبقى رجلي مشدودة مقيدة مربوطة طول الليل وأخذ التحقيق نصف شهر تقريباً مع الأذى والتعذيب ، لقد كان تحقيقاً فيه من العبث والأذى الشيء الكثير حتى قال لي المحقق هل تريد أطفال فإنا قد عزمنا على أن نخصيك ويكون ذلك مع المحاولة والمباشرة ـ وقد قال لي المحقق ( أنت كبش الفداء ) فما أكثر تهديدات هذا المحقق ومن كلماته الوقحة أنه قال لي أدخل الزنزانة وخل ربك يخرجك سبحان الله لقد أخرجني . وفي ختام هذه المرة جاءوا ومعهم مسدس وأخبروني أنهم سيعدمونني وأشعروني أن أكتب وصيتي فكتبت وصيتي أن يذهبوا بجثماني لأهلي ليغسلوني ويصلى علي حسب سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتيقنت حينها أني شهيد ففرحت لذلك وربطوا عيني برباط أسود وقيدوني وأركبوني سيارة وقادوها خارج الجهاز ومشوا بها طويلاً وهما يضرباني المحقق العدني من جهة والمحقق الحضرمي من جهة وهو السائق وأنا في الوسط فقلت حسبنا الله ونعم الوكيل فقال المحقق العدني أخرج ربك من كيسك ( أي من جيبك ) فخرجت معهما في السيارة وأنا مطمئن منشرح الصدر بالشهادة وأقول في نفسي عم قليل سأكون عند ربي مع الشهداء حياً أرزق وسارت بنا السيارة حتى وقفوا في مكان لا أعلمه إذ أني مربوط العينين لا أرى شيئاً فقال لي المحقق العدني اختر أحد هذه الموتات لنفسك :
أ ـ أما أن تُرمى بالرصاص .
ب ـ أو تسحل بالسيارة .
ج ـ أو ندفنك حياً في التراب .
قلت لا أختار إلا ما أختاره الله لي فقال حتى موتك لا تختاره وطبق عليّ كل هذه الثلاث فأوقفني العدني خمس دقائق أنتظر الرصاصة القاتلة وبعدها ضربني في بطني ضربة قوية حتى وصل رأسي عند ساقي ثم أخذني وربط القيد بشيء من السيارة وساقها قليلاً ثم أطلقني وذهب بي إلى مكان هش فدفعني فانزلقت وغمرني التراب إلى أكثر من نصفي فأخرجني وقال ألا تأتي بالحقيقة ـ ليس معنا عمل إلا أنت وسنكرر هذه العملية معك كثيراً ثم أرجعوني إلى الزنزانة دون عشاء وكثيراً ما يتركوني دون غذاء أو فطور أو عشاء في كل السجون ويتعمدون ألا يخرجوني لقضاء حاجتي فأتعب كثيراً .
لا منقذ إلا الله :
في هذه الفترة توجهت إلى الله في قصيدة هي عبارة عن ابتهال صادق إلى الله قلت فيها .
يـــا رب يا رحمن فــرج على عوضٍ
فــــإنه من سجن الجهاز مصـــــابُ
يـــذكر الأهل في ليل وفي صبــــحٍ
فما أكثر الدمع على الخدين ينســـابُ
ويـــذكر الأخوان في حلق وفي ذكرٍ
يدعــــون يا رب يا الله يا وهـــــابُ
أحببتهم في الله بلا نفع ولا غـرضٍ
وقصــــدي من الله الرضا والثـــوابُ
وشــــاء الله فافترقنا بعــــد أُلفةٍ
وزُجَّ بنا في السجون وأُغلق البــــابُ
فــلم أعد أسمع منهم ولم أر أحداً
وأوحــــش الربع وغابت الأحبـــــابُ
يــــا رب فرجها نلتقي بعــد فرقةٍ
فيأنس المهمـــوم ويخنَس العيّــــابُ
وحــــيدٌ فريدٌ لا أنيسٌ ولا رقيـبٌ
ولا يُسمـع صوتي ولا تلبّى المطالـــبُ
سألتـك يا إلهي حـــياة كريمـــــةً
أعيـــــش حراً وأُكفى المشاغـــــبُ
يا رب صلي وسلم على المصطفى المختار
محمد بن عبد الله الناســــك الأوابُ
مشوار جديد في سجن فتح:
وفي فجر يوم من الأيام جاء المحقق وقال هيّا أخرج فقلت إلى أين قال لا دخل لك ـ فساقوني إلى جهاز أمن الدولة بالمكلا ـ ومنه إلى سجن المنورة مرة أخرى ومكثت أربعة أيام ثم أتوا بسيارة أخرى ثم نقلوني إلى ( عدن ) إلى سجن فتح وهو سجن سياسي قاسي وزبانيته أقسى منه وقبل أن يزجوا بي في سجن فتح بتُ في شرطة التواهي .
فلبثت شهراً في زنزانة انفرادية في سجن فتح ولقد رأيت رؤيا مُبشرِة أثناء وجودي في هذه الزنزانة الانفرادية فلقد رأيت قوماً يخرجون طفلاً غريقاً فجئت مع من جاء لنشهد هذا الغريق بعد خروجه وسلامته ولكني لم أرى طفلاً ولكني رأيت رجلاً أعرفه من الغيل أسمه ( فرج ) ووقفت وسمعت نفسي وأنا أقرأ قوله تعالى :
( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) الطلاق: 2، وسمعت شخصا آخر قرأها معي، ثم قلت سأترك مكان الخطر هذا وقد تمثل لي كمخزن مظلم فوليته ظهري واتجهت إلى باب فتح أمامي ومشيت نحو الباب وسمعت فرج يقول لي اذهب يا عوض لا تخف سنلحق بك ـ وعندها استيقظت من نومي وفرحت فرحاً عظيماً لقد كانت الرؤيا تبشرني بفرج الله اللطيف بعباده سبحانه وتعالى وكثيراً ما كنت أرى رؤى مماثلة في سجوني من المبشرات والحمد لله ،
مدرسة يوسف عليه السلام في سجن مدته عشرة أشهر ونصف :
ثم نقلوني إلى زنزانة أخرى فيها من السجناء ثلاثة رجال ـ كان الثلاثة لا يصلون فاجتهدت في دعوتهم إلى الله فكنت أحاضرهم وأدرسهم وأعظهم حتى نجحت في رجلين فصليا وصاما ووعد الثالث أنه إذا خرج من السجن عليه العهد أن يصلي .
وقد كان أحد الرجلين يقول أنه لم يصل ولم يصم عشرين سنة وقد مضى عليه في السجن رمضان سابق لم يصم وقال أنهم لا يعطون السجناء إفطار ولا سحور فلم يصم معنا، ولكنهم بعد ذلك خصصوا إفطار وسحور فصام معنا وزاد ربي من لطفه فكان الرجل الثاني أهله من التواهي يبعثون له كل ليله إفطار بما لذ وطاب من الطعام فسبحان الله اللطيف الخبير .
وفي خلال هذه الفترة رأيت رؤيا صالحة تبشرني بالفرج من الله تعالى ، ولقد أشرت إليها سابقاً .
ثم أطلقوا سراحي من ذلك السجن بعد أن قضيت في مجموع هذا السجن الثاني عشرة أشهر وسبعة عشر يوماً.
حصار وظلم وحرمان لمدة ست سنوات:
وبعد خروجي من السجن حاصروني واضطهدوني وحرموني وجمدوني فلا وظيفة ولا تدريس ولا محاضرة لا في مسجد ولا في مدرسة ووضعوني على مستودع لإحدى المدارس فيه أدوات الطلبة ومستلزمات المدرسة ، فلقد كان تجميداً كاملاً قاسياً حتى أنهم حرموني في مواصلة الدراسة في فرصة في بكالوريوس لغة عربية وقد كنت أستحق هذه المواصلة لأني أحمل شهادة إمتياز في الدبلوم جامعة عدن في اللغة العربية الأول في الشعبة بدرجة 98 ولأني قد قضيت في التدريس المدة التي تؤهلني لمواصلة هذه الدراسة فظلموني فحرموني .
ومكثت على هذا الحال ست سنين تفرغت فيها للقراءة والكتابة فاستفدت كثيراً وأنا مطمئن بربي لن يتركني ولن يتركهم .
ورغم كل هذا الحصار عدت إلى نشاطي الدعوي في شكل دروس رمضانية في مسجد باحميد بغيل باوزير عصراً بعد الصلاة وفي آخر الليل من كل ليلة إلى ما قبل السحور فلم يعجب هذا زبانية الحزب الاشتراكي.
وعودة للسجن من جديد في رمضان:
ففي العاشر من رمضان، وبعد أن صليت العشاء والتراويح عدت إلى بيتي قال لي أهلي لقد جاءت الشرطة تطلبك .
ذهبت مع أخي إلى شرطة الغيل فقالوا لي اذهب إلى الأوقاف بالمكلا ومنها إلى شرطة المكلا ولما دخلت على مدير الأوقاف والإرشاد قال لي أعلم أني صائم ولن أكذب ولكنه قال الكذب الصريح، قال: إن الشرطة طلبت منا أن نؤكد أنك تقوم بنشاطك دون ترخيص فأكدنا لهم والآن اذهب إلى الشرطة فقلت حسبنا الله ونعم الوكيل ما دخل الشرطة بالمسجد وكيف تؤكد لهم هذا الباطل ؟ . ألم تكذب بعد هذا ولكني علمت بعد ذلك أن مدير الأوقاف هذا قد تآمر مع أمن الدولة وساعدهم فقال لي المحقق ـ أن المدير هذا قد قال لهم إن بضاعتهم جاهزة يقصدني بذلك .
فذهبت إلى الشرطة فوجدت أنها مؤامرة واحتيال حيث تم اعتقالي بالشرطة وبعد يومين وليلة نقلوني إلى سجن ( البقرين ) بالمكلا ، وفي الشرطة جردوني من ثيابي وحققوا معي وأدخلوني زنزانة فيها شيخ كبيراً خرج من اليوم الثاني ثم نقلوني في زنزانة ثانية فيها أشخاص لهم قضايا جناية وأفطرت معهم وقرأنا سورة ياسين وألقيت عليهم درساً فلما تهيأنا للنوم جاءني شخص وقال عليك أن توقع على هذه الورقة ووقعت مع أني لا أدري ما في الورقة لأن الدنيا ظلمة.
بعد التوقيع: سجن جهنم وعذاب مرعب لا يطاق .
ثم ظهر جنديان وقالا لي هيا قم إلى أين ؟ ـ إلى جهنم والعياذ بالله وفي الطريق إلى سجن البقرين بالمكلا وما أدراك ما البقرين ألقوا على عيني عصابة وحقق الجنديان معي مع الإهانة والتهديد قائلين أن التحقيق الحقيقي سيأتيك من رجال أقوياء أشداء ..
ومكثت في هذا السجن ثمانية أشهر كانت من أحلك أيام حياتي فقد لقيت من التعذيب والأذى الشيء الكثير ومنه ما يأتي : ـ
أ ـ استمرار التحقيق ليلاً ونهاراً لمدة الثمانية الأشهر كلها ، فقد كان تحقيقاً متواصلاً مهيناً فيوقظونني أحياناً في ساعة متأخرة من الليل وأنا نائم إلى التحقيق قائلين هيا إلى غرفة العمليات ولا أذهب إليها إلا مغمض العينين .
ويجري التحقيق أكثر الأوقات بالنهار في رمضان فإذا بالمحققين يفطرون جهاراً فيها والأسوأ من ذلك أنهم يشربون الخمر ويحاولون أن يكرهوني على شربه فقلت ما أحلم الله على هؤلاء المجرمين .
ب ـ وأثناء التحقيق وقبله وبعده تعرضت للتعذيب الحسي والمعنوي ومن ذلك :
1) التعليق المختلف بهيئات وصور مختلفة منها ما يجعلني أصيح بصوتي كله من شدة الألم حتى إذا أخرجوني ظللت مشلولاً لمد نصف ساعة ، وهذا أسوأ التعليقات حيث أقيد من رجلي ويدي بين الكراسي بطريقة لا أستطيع أن أصفها على الحقيقة .
2) ومنه الضرب الشديد بالعصي أحياناً وأحياناً آخر يدخلون العصا بالبيب ( خراطيم المياه ) . ويضربونني ضرباً مبرحاً على ظهري وفي فخذي وعلى أطراف قدمي أثناء التعليق حتى ينسلخ لحمي ويتجرح بدني وتتورم قدمي .
3) ومن الإيذاء الذي تعرضت له في السجن الاستهزاء والاستفزاز والتهديد والوعيد وإطلاق كلمات الكفر ، مع بسط أيديهم وألسنتهم بالسوء والسخرية والتهديد فمن يقول منهم سننكل بكم فلما قلت لهم ليس لدينا سلاح حتى تخافون منا رد علي أننتظركم حتى تأتوا بالسلاح ومن قائل إننا هذه المرة لن نرحمك وسنعذبك حتى ترى نجوم الظهر ولقد وضع أحدهم قدمه على خدي بجزمته القوية فحسبنا الله ونعم الوكيل .
4) ومنه تجريد الزنزانة من الفراش ومن أي شيء ، مع شدة الحر وعدم وجود أي فتحة في الزنزانة مع تعمدهم ألا يخرجوني إلى الحمام ـ وإذا جاءوا وفتحوا للسجناء تركوني عمداً فأصيح عليهم فيأتي السجان مزمجر غاضباً قائلاً أني فوضوي ويسب ويأتي بكلام بذئ فيخرجني بعد شق الأنفس ويستعجلني في الخروج من الحمام قائلاً ( اليوم ) .
5) ومنه قسوة الحراس علي ومنعي من قضاء الحاجة إلا بعد جهد ومشقة .
6) إدخالي في سجن ضيق بحيث لا أستطيع أن أمد رجلي وليس فيه بصيص من نور ولا ذرة هواء مع قيدين في يدي وآخر في رجلي وأستمر هذا حوالي شهر ونصف ، فهذه زنزانة لا يسكنها حتى الحيوان هي الزرقة • التي تكون في سلم البيت فلا تستطيع أن تمد رجليك لأنها مربعة ضيقة وقد وضعوا قيداً في يدي وذات يوم انفك القيد من يدي ولم أفعل به شيئاً فجاء الحارس وقال أنت كسرته وبدلاً أن يخرجه أتى بقيد آخر ووضعه مع الأول في يدي وأتى بقيد للرجلين ووضعه بين رجلي فانظر كيف أنام كيف أدخل الحمام وإذا خرجت سمع بي كل من بالسجن لوقع صوت هذه القيود وحسبنا الله ونعم الوكيل .
7) ومن الإيذاء الرجم بالحجارة إلى داخل الزنزانة التي يكون لها فجوة قريبة من السقف . وأمرض في السجن ومنها بالحوامض ويبست بطني وأصابني ضيق في صدري فلا يخلصون في علاجي بل قال لي المحقق هل ستموت لنتخلص منك وكدت أهلك في بعض أمراضي هذه .
8) ومن الإيذاء استدعائي في أي وقت حتى إني كنت استدعى في وقت متأخر من الليل فأنزعج من نومي فأسمعهم يقولون هيا إلى غرفة العمليات إلى التحقيق .
9) ومن الإيذاء أنهم حاولوا إدخال ما سورة من الحديد في دبري لولا أن الله صرفهم .
10) ومن الإيذاء أنهم هددوني بأن يأتوا بأهلي فيهتكوا عرضي أمام عيني وصرفهم الله كذلك .
وبعد أن مضت الثمانية الأشهر على هذه الحالة الصعبة جداً نقلوني مع أخوة لي في الله يعملون في الدعوة على قدر جهدهم وطاقتهم فذهبوا بنا في سيارة في شكل زنزانة عليها باب وحارس يجلس وراء الباب وبداخلها لوحان من خشب على جانبيها فمن المكلا إلى عدن يجلس أحدنا على عود ومنعنا من الصلاة ومن النزول من السيارة .
حارس السجن: ألا تعلم أن الحزب هو ربي ؟!
ثم وصلت بنا السيارة إلى سجن فتح بالتواهي وهو سجن سياسي قاسي حراسه هم كلاب الدولة حتى قال لي الحارس عند استقبالي ما الذي جاء بك ألا تعلم أن الحزب هو ربي احذر رفع صوتك أو مخالفة قوانين السجن وكان السجن انفرادياً موحشاً أخذوني مرة مغموض العينين وصعدوا بي سلالم وأدخلوني أماكن مظلمة ضيقة ثم أعادوني هكذا عبثاً ، ولبثت أربعة أشهر لقيت خلالها من الحراس ( كلاب الدولة ) الأذى والتعذيب حتى أنهم كانوا يخرجونني إلى دورة المياه راكعاً ويضربون ظهري بالواير وبلكمات من أيديهم قوية . وحاول أحدهم إدخال سيجارة في فمي ودخل علي آخر وأخذ يضربني بيديه ورجليه في غاية من القسوة والإهانة وكانت الأشهر الأربعة في زنزانة انفرادية .
ثم نقلوني مع الأخوة إلى سجن المنصورة بالمنصورة بعدن .
وأدخلونا أولاً في زنزانة كبيرة رأينا فيها الجنائز وحبال المشانق ليرعبونا ويهددونا .
عودة مدرسة يوسف عليه السلام مرة أخرى لمدة سنة وبضعة أشهر:
ثم نقلونا إلى براق آخر اجتمعنا إحدى عشر سجين طريقنا واحد وما نقموا منا إلا أن قلنا ربنا الله .
ولقد كان انتقالنا إلى هذا البراق فرجاً جزئياً من الله :
أولاً لأننا مجتمعون والاجتماع في السجن يخفف وطأة السجن لأن الحبس الانفرادي هو أصعب ما يكون .
ثانياً السجن مركزي شعبي الحارس فيه ما هو إلا موظف فقد كنا ندعو بين صفوف الجنود من الحراس وبعضهم يتعامل معنا سراً .
ثالثاً حولنا البراق إلى دورة علمية أو معهداً علمياً وتجمعت فينا المواهب والقدرات .
أ ـ فأقمنا صلاة الجمعة وشعائرها .
ب ـ وحَفِظَ الكثير منا القرآن وبعضهم أكثره .
ج ـ وأحيينا الاحتفالات .
د ـ وأقمنا الحلقات المتنوعة في التوحيد والتجويد والنحو واللغة العربية والانجليزية ، فكنت ألقي دروس على إخواني في شرح أسماء الله الحسنى وأخطب الجمعة وأصلي بهم وأصلي بهم التراويح .
هـ ـ وأنشد فينا المنشدون .
و ـ وزرعنا الحديقة حتى أكلنا من ثمرها .
واستمر هذا السجن لمدة سنة وبضعة أشهر .
جاء الفرج .. وحان الموعد مع سجود الشكر :
ثم بزغ فجر الوحدة في الوقت الذي كانوا يعتزمون فيه محاكمتنا محاكمة عرفية عسكرية ظالمة يقتلون فينا من يقتلوا ويؤبدوا في السجن من يريدوا .
فمّن الله علينا بنصره ونجاته فجاء بالوحدة .
ودخل علينا ما كان ممنوع عنّا .
وسمعنا عن نبأ إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين .
وأطلقوا جميع السجناء السياسيين وفيهم القتلة والمفسدين والمخربين وتركونا .
ولما سئلوا لم تركتموهم وتهمتهم سياسية كما تزعمون قالوا : أن قضيتهم أكبر . ما هي ؟ قالوا : ( خيانة الوطن ) .
وفي الأخير وجدوا أنفسهم مضطرين لإطلاق سراحنا فأطلقونا فخرجنا بعد أن قضينا وخاصة عن نفسي قضيت سنتين وأشهر فلما وصل إلينا خبر الإفراج سجدنا شكراً لله على تفريجه لكربنا وإخراجه لنا من محنتنا .
وفي هذا السجن ابتهلت إلى الله بدعاء حار صادق في شكل قصيدة قلت فيها .
يا ربِّ إن دولة تقــــف ضــــد بانجار
فمــــن لبانجار غيــــرك ربي ينــصر
ذهب الجـــميع وكأن شيئاً لم يكــــنْ
وبقي القليل فيهم من يدعوا ومن يذكر
فمن دعا يا رب فاستجب دعـــــوته
ومن ذكر فاجمع به الشمل فلا يتحـــسر
أين إسلامكم أيها الناس أين دينكم
أما ترحمون مغلوباً مــــــن الأذى يجأر
ألا تفكون أسيراً ألا تطعمون جائعاً
أما تنصرون مظــــلوماً دموعه تتحدر
وإذا قمتم إلى الصلاة قلتم الله أكبر
وكذبتم فلسان حالكم هو أصغر
لو كان هو أكبر لنصرتم دينه
ولما سكتم نفاقاً وهذا الكفر ينتشر
ماذا تقولون إذا جاءتكم الطامة
وبرزتم للواحد القهار ينهي ويأمر
فهل لكم من عذر أيها الناس على الله تطرحونه
أم غرتكم الدنيا وعيش مكدر
لو كان اعتمادي عليكم لكان الهلاك
لكن عمدتي رب عزيز متكبر
شهدت رعايته بل عنايته
فكم كان لطيفاً وللكسر يجبر
رضيت به رباً وإلهاً ومالكاً
وبه سبحانه ربي أتيه وأفخر
سألتك يا إلهي أن تنفس كربتي
وتكشف بلوتي وأجل السجن تقصر
ضاقت بي الدنيا وضاقت بي زنزانتي
وضاقت عليَّ نفسي فضاق بها الصبر
يا رب فرجها من قريب عاجل
وأملأ القلوب سروراً فقد ملئت كدر
رب ليس لي سواك فأنت حيلتي ووسيلتي
وأنت ركني الشديد وأنت فوق الكل قاهر
رب إني أشكو إليك ظلم الطواغيت
فانتقم منهم فأنت المهيمــــــن الجبار
وبها نختم بالنبي العربي الهاشمي
تراه أمينا ومن جوانبه العلم يتفجر
رب صل وسلم عليه ما هب النسيم
وعلى الآل والصحب الكرام جاهدوا ما قصروا
أيام عجاف..تلاها فرج:
ومرت الأيام حتى جاءت أيام عجاف أيام الحرب الانفصالية فعشنا أياماً حالكة بلغت قلوبنا الحناجر وهددنا واقتحموا بيتي وأخذوا سلاحي وأسروا حارسي وأسروا وسجنوا أخي .
ولفقوا لي قضية جاهزة على أنني أعطيت الشباب فلوساً وأعطاهم الشيخ عبد الله الأهدل متفجرات وعينوا مكان التفجير واحداً واحدا . وكانوا يعتزمون على حملة اعتقال لنا وتصفية جسدية بعدها على أساس هذه التهم الملفقة يريدون إعدامنا ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
فكما أكرمنا بالوحدة سبباً في الإفراج عنا جاءنا هذه المرة بالنصر على الشيوعيين فخلصنا من الموت والإعدام، فسبحانه إليه يرجع الأمر كله وله الحمد ما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه فالله غالب على أمره سبحانه .
مالذي يحتاجه الداعية في طريق دعوته؟
العبر والدروس : ـ
1) طريق الدعوة محفوفة بالمخاطر والأشواك إلا إن حب الدعوة عند الداعيّة ينسيه كل هذا ولا يلتفت إليه ولا يخشى في الله لومة لائم ولا يعبأ بهم .
2) يمد الله الداعية عند وقوعه في فخ الأعداء بمدد وصفات معنوية يجمعها قول الله تعالى في إبراهيم حيث القي في النار ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ الأنبياء:69
ومن هذا المدد ومن هذه الصفات التي ينزلها الله على الداعية ما يلي : ـ
أ ـ يفرغ عليه صبراً واحتمالاً وينزل عليه سكينة وطمأنينة فيشعر بالعزة والكرامة واستصغار الدنيا وخاصة عند قراءة آيات معينة في الاحتساب والتصبير والتزهيد في الدنيا فعندها ينسى أن له أهل وأحباب ، ومن هذه الآيات التي أتسلى بها قول الله تعالى frown رمز تعبيري أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) ب ـ يطوي ربنا له الوقت فيمر بسرعة .
ج ـ وييسر لنا النوم فينام أحدنا ملئ جفونه هادئاً ويرى في منامه الرؤى الصالحة التي تبشره وتطمئنه ..
3) يحس بلذة المناجاة وصدق الإقبال على الله وقد سدت الأبواب فلم يبق إلا بابه .
4) يستشعر معيته في صورة مختلفة .
أ ـ تراه يحفظك وترى عنايته .
ب ـ إذا قسى حارس ليّن قلب حارس آخر .
ج ـ وتراه في انشراح صدرك وطمأنينة قلبك وسكينة نفسك .
(5) ومن الدروس والعبر أن الله مع الصابرين في محنتهم داخل السجن ومعهم خارجه يحقق لهم ما بشرهم به ، وقول الله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) هي بشارة مفتوحة تبشر كل صابر بالذي يريده من صبره وبغيره مما لا يتصوره ولا يحتسبه لأنها مفتوحة ولم يعين ربي شيئاً ولم يقل بشرهم بالفرج أو بالنصر بل تركها هكذا مفتوحة وكنا نتوقع فقط أن يفرج عنا ونخرج فيكون أحدنا كصخرة لا يتحرك ولكن صدق الله فقد كانت بشارة مفتوحة حقاً حتى انعقدت الوحدة واتسع نطاق الدعوة والحركة ووسع الله علينا الرزق فبنيناً بيتاً وملكنا سيارة للدعوة وشرفنا بالدعوة وغربنا وتعرفنا على خلق كثير ونجحت دعوتنا وألفت الكتيبات الكثيرة وغير ذلك وكل هذا داخل في قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ، وقول الله تعالى : ( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )
فله الحمد ربي كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه . وبذلك تكون العاقبة للصابرين المتقين وينتقم الله من المجرمين بعد إمهالهم وانتفاشهم .
مآل المجرمين :
كنت أتلو قول الله تعالى ( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)، ثم رأيت الآية تتحقق على الواقع فمدير التحقيق بسيئون يموت مسموماً من بعض أصحابه فيبيت يصيح حتى زهقت نفسه ومات غير مأسوف عليه وأحد المحققين من المكلا مات مشرداً في مصر سكراناً أو قل مجنوناً في الخارج لدورة المياه فمات في موضع نجاسة نجساً ومحقق آخر من المكلا دهسته شاحنة فقتل في سيارته شر قتله فقلت صدق الله العظيم : ( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) .
5) وبذلك كله أعلم حقيقة ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) .
6) فما عليك إلا أن تؤدي واجبك وتقول كلمة الحق صادعاً بها ولا عليك بعد ذلك فإن الله معك بعنايته ونصره وحفظه .
7) ومن العبر والدروس أن الناس يغرهم انتفاش الباطل وطول مدته فيتخلون عنك بل ويقفون ضدك فيزيدك الله إيماناً وتسليماً ويكفيك أنه معك ولن يتركك ولن يتركهم .
8) وإن لله حكمه في تأخير الفرج تعلم ذلك بعد انقضاء محنتك فلا تستعجل فإن الله لا يعجل لعجلة أحدكم .
9) وأنه لا منحة إلا بعد محنة ولا تمكين إلا بعد ابتلاء .
10) وأن الدعوة ليس لها وقت معين وأنها تستوعب العمر كله .
11) وأنه لا وجود لحق ليست له قوة تحميه .
12) وأنه إذا وجد أهل الحق وحملوه وضحوا من أجله انتصر الحق بإذن الله وقد لا يكون لأهل الحق قوة إلا قوة الله ونصره وتأييده والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات .
هذه حياة الدعوة والبذل والصبر والتضحية والجهاد في حياة شيخنا العلامة/ عوض بن محمد بانجار كما حكاها بنفسه ، نسأل الله تعالى أن يتقبله في عباده الصالحين وأن يرفع درجته في عليين ...
ليست هناك تعليقات: