( الى الدعاة مالهم وماعليهم) (١-٥)


( الى الدعاة مالهم وماعليهم)(١-٥)


الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على امام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

اما بعد: فهذه كلمات موجهة الى الدعاة مالهم وماعليهم، عسى الله أن ينفع بها، وأن تسهم في بيان الحق وتوضيحه لقاصديه، وتجلي مااختلف فيه باذنه سبحانه، وهو ربي عليه توكلت واليه انيب، وسيكون الحديث فيها عن خمسة محاور، عن فضائل الدعاة، وعن الدعاة والسياسة، والدعاة والتحزب، والدعاة والتجارة، وآداب الدعاة، والله الهادي الى سواء السبيل.

اولا: فضائل الدعاة

الدعاة الى الله تعالى هم حاملوا راية الدعوة من بعد الانبياء تكليفا وتشريفا لهم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهم رجال الاصلاح في هذه الأمة، وهم قادتها وقدوتها في الخير، وهم مصابيح للأمة يستضيئون بهم في طريقهم الى الله، ويسترشدون بهم في امور دينهم ودنياهم، بصلاحهم تصلح المجتمعات، وبفسادهم تفسد
بالوحي يهتدون، والى الحق يدعون، وعن الباطل ينكصون ويحذرون، شعارهم( قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وماانامن المشركين) يوسف١٠٨،ومبدأهم ونهجهم( ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) النحل١٢٥، وحالهم وديدنهم( واصبر وماصبرك الابالله ولاتحزن عليهم ولاتك في ضيق ممايمكرون) النحل١٢٧، وعقيدتهم وايمانهم( ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) النحل١٢٨
وهم من اعظم الناس اجرا وثوابا الى يوم القيامة لاينقطع عملهم بموتهم ولابعجزهم، فمن اهتدى على ايديهم، واهتدى آخرون على ايدي هؤلاء ودواليك فلهم مثل اجرهم، واذا عملوا خيرا دائما، او سنوا سنة حسنة فلهم اجر ذلك وأجر من عمل بها الى يوم القيامة،فكيف اذا انضاف الى ذلك توريثهم لعلم نافع، او التصدق بصدقة جارية
وأعظم الشهداء وخيرهم عند الله من يقتل من اجل دينه، وعقيدته ودعوته، ولوقتل وهو في وسط بيته، اوفي مسجده، او في الطريق، او حتى وهو في نزهة بريئة لوحده، او مع اهله، او مع اخوانه واحبابه، مادام انه استهدف لأجل ذلك وبغير حق، أليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل وهو في المسجد يصلي بالناس، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم انه شهيد، وأليس عثمان بن عفان رضي الله عنه قتل في بيته، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم انه شهيد، وأليس علي بن ابي طالب رضي الله عنه قتل وهو في الطريق الى المسجد، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم انه شهيد، وأليس الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله قتلابغيرحق، وشهد لهما النبي صلى الله عليه وسلم انهما شهيدان؟ بلى في كل هؤلاء، لأنهم جميعا قتلوا لأجل دينهم ودعوتهم، فكانوا عند الله شهداء، وكذلك حال من قتل من بعدهم على مثل ماقتلوا عليه، وقد جاء في الحديث الثابت(( اعظم الشهداء عند الله حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قام الى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فقتله)) او كما قال صلى الله عليه وسلم.
ويتحقق للشخص ان يكون من الدعاة الى الله تعالى بعد صلاحه في نفسه قولا، وعملا، واعتقادا، أن يعلم الناس الخيرَ، او يبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فان لم يفعل، او لم يستطع فيعامل الناس معاملة حسنة، ويقول لهم قولاحسنا، ويمسك شره وأذاه عنهم فذلك من أكثر طرق الدعوة تأثيرا على الناس، وهداية لهم

وعلى هذا فليس الدعاة محصورين في اطارات معينة، اوهيئآت خاصة، بل هم منتشرون في المجتمع بأصناف كثيرة، وألوان متعددة، فالخطيب داعية الى الله تعالى، والواعظ والمحاضرداعية الى الله، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر داعية الى الله، والإمام والمؤذن بصوتهما الحسن، وأدائهما الحسن، واجتنابهما للبدع داعيان الى الله، والمعلم والمربي داعية الى الله، ومحفظ القرآن الكريم داعية الى الله، ومن يقيم المشاريع الخيرية من اوقاف، وبناء مساجد، ومدارس، ودور قرآن، ومؤسسات خيرية، وإعالة أيتام وأرامل، وفتح مستشفيات خيرية وبنائها ونحوذلك داعية الى الله، ومن يؤلف كتابا نافعا، او ينشره، اويطبعه، او يكتب مقالا كذلك في جريدة، او مجلة، او في مواقع التواصل الاجتماعي او الاعلام فهو داعية الى الله، ومن يقوم بنفع الناس، وإيصال الخير لهم، ودفع الشر عنهم فهو داعية الى الله تعالى، وهلم جرا....

( الى الدعاة مالهم وماعليهم)(٢-٥) 

ثانيا: الدعاة والسياسة. 

السياسة الشرعية هي جزء من الدين الاسلامي الحنيف، وهي قائمة على حفظ الدين، وسياسة الدنيا به، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، وحفظ البلاد من العدوان الخارجي والداخلي، والحفاظ على مصالحها وثرواتها وتنميتها، واقامة العدل بين الناس جميعا
في حين أن السياسة المعاصرة اليوم قائمة على غير ذلك في مسألة حفظ الدين، وسياسة الدنيابه أي على اقصائه، وتحاول فيما سوى ذلك من السياسة الشرعية أن تحققه بحسب قربها، أو بعدها من الدين، وبحسب قدرتها وقوتها على الصعيد العسكري والوطني
على أن اهم مايميز السياسة المعاصرة في الغالب هو علمنة الدولة أي اقصاء الشريعة عن الحكم، وإحلال القوانين المخالفة لها محلها، وكذا العلاقات الدولية التي تربط الدولة بغيرها من الدول الاسلامية، وغير الاسلامية، وتحدد هذه العلاقات: المصالحُ المتبادلة، والاتفاقات الدولية والثنائية، ولاتحددها المبادئ والقيم والاخلاق.
فهل للدعاة في مثل هذا الحال والجو العلماني الذي تعيشه بلدانهم أن يلجوا السياسة، وأن يشاركوا في الحكم، أو يستفردوا به من خلال الانتخابات؟
انه قبل الاجابة على هذا السؤال يجب أن يلاحظ أن الأمة الاسلامية اليوم تعيش في مرحلة الاستضعاف إن لم يكن في أسوإ مراحله، ولايجوز أن تقاس هذه المرحلة على مرحلة الاستخلاف والتمكين التي عاشتها الأمة في عقود ماقبل الاستعمار، وماقبل الحروب الصليبية التي اجتاحت العالم الاسلامي من قبل، ولكل مرحلة احكامها الخاصة بها، فمرحلة التمكين لم تتهاون الأمة في دينها، ولافي شريعة ربها، ولا في مواجهة عدوها.
أما مرحلة الاستضعاف فهي أهون من أن تقوم بذلك، ويعود السبب الى تفرقها الى دول كثيرة، وشعوب متعددة، والى عدم امتلاكها للقوة الرادعة التي يمتلكها عدوها، والى سيطرة الدول العظمى عليها في قراراتها، وأقرب توصيف لها وتشبيها بحالها هي الحالة المكية التي عاشها المسلمون، ولم يبنوا فيها دولة، ولاأقاموا شريعة، بل لم تنزل أيًّ من الأحكام تخاطبهم بذلك، وتأخر نزول هذه الأحكام الى مابعد الهجرة النبوية
وإضافة الى هذا التوصيف فهي أيضا أقرب الى حال المكره الذي يسقط عنه الاثم والحرج في عدم فعل العبادة اذا أكره على عدم فعلها.
وإذا اتضح هذا التوصيف للأمة اليوم، فنقول اجابة على السؤال: ان المصالح والمفاسد هي التي تقرر للدعاة المشاركة في الحياة السياسة من عدمها، فاذا ترجحت المصالح عندهم على المفاسد جازت مشاركتهم، واذا كان العكس فالعكس، أي لم تجز مشاركتهم، وقد قال بعض الأئمة رحمه الله: انه اذا ترجحت المصلحة فثمَّ دين الله
على أنه لهم في الواقع التأريخي مايرجح جواز مشاركتهم كحال يوسف عليه الصلاة والسلام الذي تولى وزارة التموين( عزيز مصر) في دولة كافرة، وكحال النجاشي رحمه الله الذي بقي يحكم قومه النصارى بغير الاسلام وهو مسلم، وكحال صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي تولى الوزارة في دولة العبيديين، وحال بعض القضاة الذين تولوا القضاء في دولتهم، وهم ليسوا على عقيدتهم، بل هم من أهل العلم المعتبرين، وقد أفتى الامام ابن تيمية رحمه الله بجواز تولي شخص جباية المكوس( الضرائب) لحاكم ظالم اذا كان يستطيع التخفيف منها، لأنه حينئذ كما قال يكون وكيلا للأمة، وليس وكيلا للظالم.
واذا كان القول بالجواز هو الأرجح فانه يجب أن يكون وفق الضوابط التالية:
١- العجز التام عن اقامة حكم الله تعالى وشرعه
٢- عدم تشريع أي أحكام تخالف الشريعة اذا كانوا منفردين بالحكم لأنه يكون حينئذ تشريعا ممالم يأذن به الله، وتشريكا له في حكمه
٣- عدم الرضا أو المشاركة في اقرار أي تشريع يخالف شرع الله في حال عدم استفرادهم بالحكم، لأن ذلك حكمه كمن يشرع استقلالا، وقد جعل الله تعالى حكمهما سواءً
٤- عدم تمييع دينهم، وأخلاقهم، ودعوتهم بدعوى السياسة، واقتضاء الحال والمصلحة، ونحو ذلك من المبررات الواهية كما هو حاصل، وحصل من كثير ممن ولجوا السياسة، وما أكثر الأمثلة من هؤلاء المميعين اليوم، سواء ممن قضى نحبه، أو ممن ينتظر على امتداد الوطن العربي والاسلامي، وأي غبن أعظم في حق هؤلاء من أن يثلم دينهم، أو تنسلخ أخلاقهم بدعاوى واهية، لعلها اوهى من بيوت العنكبوت، ويظهر غبنهم في كونهم لادينهم سلم لهم، ولادنياهم أصلحوا.

وأخيرا نقول: ان التكليف مقرون بالاستطاعة سواء المكلف فردا، أو جماعة، أو دولة، فمن كان مستطيعا من هؤلاء على الحكم الذي كلف به فيجب عليه القيام به، ولايعذر بتركه الابتوبة صادقة، ومن لم يستطع فليس مكلفا شرعا، ولاعقلا، والله اعلم

( الى الدعاة مالهم وماعليهم)(٣-٥)


ثالثا: الدعاة والتحزب

الحزبية بمفهومها المعاصر تعني: التأطير في حزب، والانضمام اليه، وتبني أفكاره، والدعوة اليها.
والحزب يعني: مجموعة من الناس اجتمعوا على منهج وأهداف معينة بترخيص من الدولة بغية الوصول الى الحكم بالطرق السلمية.
وهذا المفهوم للحزب لم يكن معروفا قبل هذا العصر، والمعروف من قبل هي العصبية بكل انواعها وألوانها الجاهلية، كالتعصب للمذهب، او القبيلة، او الشرف والجاه والنسب، او للرأي، او للأفراد، او الجهات، وغير ذلك، وليست الحزبية، او العصبية مذمومة باطلاق، وانما المذموم منها ماكان حزبية، او تعصبا للباطل، فهؤلاء دعواتهم منتنة، ودعاتهم من جثى جهنم، ان لم يتوبوا كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
وأما اذا كانت الحزبية والعصبية للحق، ونصرة لأهل الحق، ودفعا لأهل الباطل فهي من الدين الذي أمر الله تعالى به في قوله( وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان) وقوله( اولئك حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم(( والمسلون يد واحدة)) والمقصود بذلك طائفة منهم ممن هم في خط المواجهة مع الأعداء، وليس جميع المسلمين قطعا في بقاع الارض لتعذر ذلك
وهل جهاد أعداء الله، او الخارجين على الدولة المسلمة بعصابة من المؤمنين، تحت راية واحدة، وإمارة واحدة الا نوع من التعصب للحق والدفاع عنه
والحزبية اليوم بضوابطها الشرعية متحتمة على اهل الحق لمواجهة التكتلات الحزبية العلمانية، والمنحرفة، ولاسترداد الحكم المسلوب بالطرق السلمية، وان كان تحقيق هذا صعب المنال في ظل الهيمنة الصليبية الغربية، ولما قد يتخوف البعض منه من الوقوع في المحذور من طلب الحكم والحرص عليه، ومناوأة الحاكم الشرعي في حكمه
ولاشك انه صعب المنال، ولكن الواقع أثبت عكسه في الجزائر، ومصر، وتونس، وتركيا حين وجدت انتخابات حرة ونزيهة، بغض النظر عن مآلات ذلك، والفشل الذريع الذي مني به الاسلاميون في بقائهم في الحكم
وأما التخوف من المحذور في طلب الحكم فيرفعه كون هذا الطلب أصبح من الضرورات لمواجهة المد العلماني، ولأن النهي هو للكراهة وليس للتحريم عند كثير من العلماء، ولأن يوسف عليه الصلاة والسلام سأل الولاية وحرص عليها لمارأى في نفسه من الأهلية لها وللضرورة التي أملتها الظروف المعيشية في زمنه
وأما كون ذلك مناوأة للحاكم الشرعي فيدفعه التراضي بين الاطراف مع الأمة على ذلك،وانتهاء ولايته التي وافق حين فوزه بها أن تكون مشروطة بمدة معينة، والمسلمون على شروطهم
ومع كل هذه المصالح والضرورات للحزبية المنضبطة الا ان كثيرا من العلماء يرون عدم جوازها، لمافيها من التفرقة بين الناس بسبب انتماآتهم الحزبية، ولماقد يحصل بينهم من التصنيفات السيئة، ولما يترتب عليها من عقد الولاءات والبراءات الخاصة، ولما في غالبها من انحرافات فكرية وعقدية، ومن مناوأة للحاكم الشرعي في حكمه كماسبق، الى غير ذلك من المفاسد حتى أوصلها بعضهم الى أكثر من خمسين مفسدة، وكل ذلك صحيح اذا كانت هذه الحزبية لنصرة الباطل، وازهاق الحق، ولتحقيق مآرب شخصية، وأما اذا كانت لنصرة الحق، وازهاق الباطل، وبالضوابط الشرعية فلامانع منها، بل ربما تكون واجبة ان لم يندفع الباطل ويدحر الا بها،ومن المفارقات ان بعضا من الجماعات ممن كان يرى عدم جوازها بالأمس صار اليوم يرى جوازها، ولاعتب عليه في ذلك لأن هذا هو فقه الواقع الصحيح
ولجواز قيام أي حزب لابد أن تتحقق فيه الضوابط الشرعية الآتية:
١- وجود الضرورة لانشائه كغياب الحكم بالاسلام، ووجود احزاب علمانية وقومية محاربة للدين
٢- ان يكون منهج الحزب واهدافه وتصوراته منبثقة من الاسلام عقيدة وشريعة، من غير انحراف عن منهج السلف الصالح، مع الاحتفاظ بحق الاجتهاد فيما لانص فيه
٣- نبذ العصبية الحزبية ورفضها، وتقديم الحق عليها، وحفظ حقوق كل مسلم بعيدا كان او قريبا، كحق الأخوة الايمانية، والنصرة، والتعاون على الخير، وسائر الحقوق الأخرى التي وردت بها النصوص
واذ قد عرفنا جواز قيام الاحزاب الاسلامية، وجواز انضمام الدعاة اليها على ضوء الضوابط الشرعية المتقدمة، الا أن بعض العلماء يرى عدم استحباب انضمام العالم والداعية الكبير والمشهور الى هذه الاحزاب، لما قد يفوت كما يقول على الأمة من الاستفادة القصوى منه، كونه محسوبا على حزب معين، وينظر الى من كان كذلك من قبل أكثر الناس، وفي الغالب هم عوام او حاقدون- على أن فتاواه أو آراءه تصب في خدمة حزبه، وهذه الاتهامات وان كانت عارية من الصحة في الغالب الا أنني أميل الى مايراه هؤلاء العلماء،حتى يكون العالم والداعية الكبير بحجم الأمة، وليس بحجم حزب معين، والله اعلم

( الى الدعاة مالهم وماعليهم)(٤-٥)

رابعا: الدعاة والتجارة.

لم تكن الوظائف في الدولة متاحة لجميع أفراد الشعب بحسب مؤهلاتهم قبل العصر الحديث، وانما كانت متاحة فيمامضى على نطاق ضيق جداً، ولأفراد مخصوصين يختارهم الخليفة او السلطان لمساعدته في شئون الحكم، كالوزير، والقاضي، وقائد الجيش، والحرس الخاص، ونحوهم، وغالبية الأمة في ذلك الوقت كانوا يعتمدون على التجارة، والزراعة، والمواشي، والمغانم، والمخصصات التي تفرض لكثير منهم في الديوان
واستمر الحال كذلك في الاعتماد على هذه الأمور في الدخل حتى كان هذا العصر الذي استحدثت فيه الوظائف في الدولة، ومن ثمَّ انحاز كثير من الناس اليها، خاصة في المدن، وتركوا الاعتماد على ماسواها الا ماندر، غير أنه تبقى شريحة واسعة من المجتمع لاتزال تعمل في التجارة، والزراعة، ورعي المواشي، وتركز أكثر على التجارة، ولاترى شيئا يقوم مقامها، ولاأحسن منها، فإن الوظائف كما يقولون- وان كانت لها ايجابياتها الكثيرة كالأمن الوظيفي الذي يشعر به الموظف له لأسرته حتى بعد موته، وعدم خضوع الراتب للخسارة الذي قد تتعرض له التجارة الا ان الموظف مهدد بين وقت وآخر بالفصل، او ايقاف راتبه فيما لو غضبت عليه دولته لأسباب أمنية، او سياسية، او حزبية، او دعوية، او جنائية، وشواهد ذلك كثيرة في مصر، وسوريا، واليمن، وغيرها، وحينئذٍ اذا فصل، او أوقف راتبه، وليس له أي مصدر آخر للدخل، ولاأي مال مدخر فانه يصبح بين عشية وضحاها من المشردين، والمتسولين في الطرقات، وعلى ابواب المساجد والبيوت، لذا فان هذه الوظائف هي نوع من الرق الحديث، وأطلق عليها بعضهم
( الوظائف العبدة) لكون الموظف كالعبد عند سيده( الدولة)، وقد اتضح لي ذلك جليا عندما أوقفت الجامعة راتبي لعدة أشهر بدعوى الانقطاع عن التدريس، مع أني قدمت على تفرغ علمي براتب، وتمت الموافقة عليه من جميع المجالس العلمية الامجلس الجامعة فلم يتم عرضه عليه مثل غيري من المتفرغين لأسباب كيدية، وأصرت على دعوى الانقطاع حتى حضرت بنفسي فأطلقت لي بعض الرواتب بعد جهد جهيد، وأبقت على البعض وعلى أمر الايقاف حتى أحضرلهم مباشرة للعمل، فأحضرتها قبل وقتها فلم يشفع لي كل ذلك عندهم، ولازلنا في صراع معهم، وغيري كثير ممن هو على مثل حالي، أو أسوأ، فقررت بعد هذا أن أدخل في التجارة ان شاء الله، ولو أن أبدأ فيها كبداية عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه
وأظن انه لايماري أحد في فضل التجارة وسائر الاعمال الحرة، والمهنية، فلو لم يكن من فضلها الا التحرر من رق الوظيفة لكفى، فكيف اذا انضاف الى ذلك كون التجارة والمهن اليدوية الشريفة هي من اعمال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حيث نجد نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم اشتغل بالتجارة ورعي الأغنام قبل البعثة، وزكريا عليه الصلاة والسلام كان نجارا، وداود عليه الصلاة والسلام كان حدادا، وإدريس عليه الصلاة والسلام كان خياطا
وهي كذلك مهنة الصديقين، والصالحين من هذه الأمة، فأبوبكر الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم كان تاجرا، وعثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، وأفضلهم بعد الشيخين كان تاجرا، وهو أحد من جهز جيش العسرة بمالم يجهز به أحد مثله، حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال(( ماضر عثمان مافعل بعد اليوم)) وعبدالرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة كان تاجرا، وشارك في تجهيز جيش العسرة بمال كثير، وغير هؤلاء من الصحابة الفضلاء
ومن علماء الأمة وأفاضلهم من بعدهم ممن عمل في التجارة كثيرون، ومن أشهرهم فقيه اهل مصر ومحدثهم: الليث بن سعد، وأمير المؤمنين في الحديث محدث اهل مرو وفقيههم: عبدالله بن المبارك، وعدد ماشئت من خيار هذه الأمة وصالحيها.
والتجارة اضافة الى ذلك هي الطريق الوحيد الى الربح الوفير، والغنى الفاحش الذي اذا استخدم في طاعة الله كان صاحبه في أفضل المنازل، وأعظم الأجور
على انه يجب على الداعية اذا ولج باب التجارة ألا تشغله عن دعوته، ولاعن طاعة ربه من حضور للجمعة والجماعات، والمحافظة على نوافل العبادات، من صيام، وأذكار، وقراءة، وصدقات كما أشغلت من قبل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ابن جميل، وثعلبة ان صح الخبر فيه، وكما أشغلت كثيرين في عصرنا حتى تحولوا الى عباد للدرهم والدينار، والريال والدولار، بعد أن كانوا عبادا لله تعالى، وأن يكون قدوة حسنة في تعامله، وبيعه، وشرائه، من صدق، ووفاء، وأمانة، وسماحة، حتى لايكرِّه المدعوين الى نفسه ودعوته، ويستحضر حال الدعاة الذين نشروا الاسلام في شرق آسيا بسلوكياتهم الحسنة، وأخلاقهم الفاضلة
وأعرف أحد الدعاة ممن يشتغل بالتجارة المتجولة، وقد رأيته يعرض بضاعته على صاحب أحد المحلات فلم يشتر منه، فلما ذهب سألته لماذا لم تشتر منه؟ فقال: انه يعرض بضاعته بثمن أغلى من سعرها مدعيا ان ذلك هو سعرها الحقيقي في السوق، قال: فلما بحثنا عنها وجدناها بأقل بكثير من السعر الذي عرضها به علينا، فمثل هذا التعامل، وان كان في نظري قابلا لاحتمالات صدق كل منهما وكذبه، الا انه يجعل الداعية في محل الريبة والشك، ولأجل ذلك عليه أن يدع مايريبه الى مالايريبه، كما وجهه الى ذلك النبي صلى عليه وسلم
وهذا هو معنى حديث، وفيه من الارشادات انه يتوجب عليه أن يبتعد عن الحرام بيعا، وشراء، وتعاملا، وأن يبتعد عن مواطن الشبه والشبهات في تجارته، والله اعلم.

( الى الدعاة مالهم وماعليهم)(٥-٥)

خامسا: آداب الدعاة

الدعاة ليسوا كسائر الخلق من حيث نظرة المجتمع اليهم، اذ أن كل أقوالهم، وأفعالهم بالنسبة لهم هي تحت المجهر، ومن ثمّ فان عليهم أن يزنوا جميع تصرفاتهم قبل صدورها منهم، وأن يحاسبوا أنفسهم عليها قبل أن يحاسبهم المجتمع عليها، على أن مراعاتهم فقط لمحاسبة المجتمع ليست واردة، فان الصادقين منهم همهم في المقام الأول هو رضا الله تعالى وحده عنهم، ولايعني هذا ايضا عدم المبالاة بالخلق فهذا ايضا ليس وارداً، والجمع بينهما هو حسٔن النية لله تعالى، وحسٔن الخُلُق مع الخلٔق، ومن وفق لذلك فقد هدي الى الحكمة والصواب.
ولكون الدعاة محط أنظار المجتمع، والركيزة الأساسية للدعوة الناجحة فيلزمهم التأدب بهذه الآداب الشرعية لاستمرار نجاح دعوتهم، ومن ذلك:
اولا: التأدب بأخلاق المسلم الخاصة، والعامة في نفسه، وأهله،وولده، ووالده، ومع الناس أينما كان، في مسجده، أو في عمله، أو في السوق، أو في الطريق، أو في أي مكان وجد فيه، اذ هو مسلم أولاً قبل أن يكون داعية، والمسلم مطالب دينا أن يكون حسن الأخلاق والشمائل، موطأ الاكناف، جميل السيرة، والمسايرة، ولم يرزق المرء بشيئ أعظم من حسن الخلق، لأنه يجمع له دينه ودنياه

ثانيا: التأدب بآداب الدعوة

وهي الآداب الأساسية لنجاح الدعوة، وبغيرها لانجاح للدعوة أبدا، ولذلك ذكرها القرآن خاصة دون غيرها من الآداب لارتباط النجاح والفشل بها، ومن هذه الآداب:
١- الصدق، وهي ألصق صفة بالدعاة، لأنها من صفات الأنبياء، وهم ورثتهم، ومن لم يتصف بها فحري به أن يكون من أهل الفجور والنفاق، ومن ذا ياترى يصدق كاذبا اذا حدث، أو اذا أخبر، أو اذا وعظ؟ وفي المقابل: أليس الصادق أحرى بالتصديق من كل أحد؟ وأنه لاتجوز رد رواياته، ولاشهادته، ولاأخباره؟
وتأمل كيف سارعت قريش الى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في أول وهلة قبل أن يعلن عن نبوّته، لأنه كان معروفا عندهم بالصادق الأمين، ثم كذبته بعد اعلانه لا لأنه كاذب عندهم، ولكن تكذيبا وجحودا بآيات الله، وكفرا وعنادا منهم
فالصدق، فالصدق أيها الدعاة
٢- الصبر، وهو من أهم الصفات التي تتطلبها الدعوة، ومن لاصبر له فلاإيمان له، ولا دعوة، ولاعمل، ولاجهاد.....، وكيف يمكن أن يقوم الداعية بالدعوة وأعبائها ومشاقها، وهو ضيق الصدر، قليل الصبر، كثير الجزع والتسخط، هذا مالايكون ابدا، وله في نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأسوة الحسنة في الصبر والتحمل، ألم يكذبوا، ويستهزأ بهم، ويسخر منهم، ويؤذوا في انفسهم وأهليهم قولا وفعلا؟ فقابلوا كل ذلك بالصبر والاحتساب، بل انهم ذهبوا الى أبعد من ذلك اذا قدروا على من آذاهم حيث عفوا عنهم ولم ينتقموا لأنفسهم منهم، وخذ مثلا على ذلك، نبينا صلى الله عليه وسلم، وعفوه الذي ضرب به أروع الأمثلة، وقمة السمو والنبل، وعظم الطهارة والصفاء، كعفوه عن قريش يوم الفتح، وعفوه عمن أراد قتله، وعفوه عن عبدالله بن أبي لما قال عنه: انه الأذل، وهو الأعز، وعفوه عن الخارجي الذي قال له: اعدل فان هذه قسمة ماأريد بها وجه الله، وعفوه عن الأعرابي الذي جبذه بردائه حتى أثرت حاشيته في عنقه، وقال له: اعطني من مال الله الذي عندك لامن مالك، ولامن مال أبيك، وغير ذلك
فياأيها الدعاة، صبرا، صبرا، وليكن شعاركم( واصبر وماصبرك الا بالله ولاتحزن عليهم ولاتك في ضيق ممايمكرون)
٣- القدوة الحسنة، سلوكا وأخلاقا، وعلماوعملا، وقولا وفعلا، وظاهرا، وباطنا.
وهذه القدوة لها الأثر الكبير في نفوس المدعوين أعظم من تأثرهم بالأقوال، وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الصفة في تخلق النبي صلى الله عليه وسلم بها في قوله ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وفي قوله( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)
ولقد كان لهذه الصفة الأثر الواسع في دخول الناس في الاسلام افواجا افواجا يوم الفتح، وفي انتشاره في مناطق واسعة من شرق آسيا بعد ذلك.
وممايحسن الاشارة اليه في القدوة الحسنة: الالتزام بالاسلام في المظهر الخارجي للدعاة الذي يكثر التساهل فيه اليوم، والبعد عن مواطن الشبه والشبهات، والترفع عن سفساف الأمور، ومحقرات الذنوب، والزهد في الدنيا الذي يعني التقلل منها لاترك المباح، والورع، وملاك ذلك كله: تقوى الله تعالى
٤- ارتباط الداعية الوثيق بمجتمعه، وهذا الأدب يؤخذ من مجموع النصوص، ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من خلال مايلي:
أ- الزيارات المتبادلة بينه وبينهم
ب- مشاركته لهم في أفراحهم، وأحزانهم، ممالايشتمل على شبهة او معصية
ج- الزهد مما في أيديهم
د- عدم التطاول او الترفع عليهم
ه‍- حسن التعامل معهم
ز- أداء حقوقهم التي أوجبها الله أو استحبها لهم قدر الاستطاعة
والحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

ليست هناك تعليقات: